الرسالة الثالثة تفسير كلمة التوحيد

 
ص -363- الرسالة الثالثة تفسير كلمة التوحيد 


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لوليه، والصلاة والسلام على نبيه، سئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن معنى "لا إله إلا الله"، فأجاب بقوله: اعلم رحمك الله تعالى أن هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.
وليس المراد قولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويتصدقون.
ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب، ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله مخلصا" 1 وفي رواية: "خالصا من قلبه" وفي رواية: "صادقا من قلبه" وفي حديث آخر: " "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" 2، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة.
فاعلم أن هذه الكلمة
---------------ــ
1 أحمد (5/236).
2 صحيح مسلم: كتاب الإيمان (23).

ص -364- نفي وإثبات: نفي الإلهية عما سوى الله سبحانه وتعالى من المرسلين 1 حتى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الملائكة حتى جبريل 2، فضلا عن غيرهما من الأنبياء 3 والصالحين، (وإثباتها لله () 4.
إذا فهمت ذلك فتأمل الألوهية التي أثبتها الله تعالى لنفسه ونفاها عن محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل وغيرهما أن يكون لهم منها مثقال حبة من خردل.
فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا السر والولاية.
والإله معناه 5 الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه الفقير والشيخ، وتسميه العامة السيد؛ وأشباه هذا وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق عنده 6 منْزلة يرضى أن يلتجئ الإنسان إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله.
---------------ــ
1 لفظ (من المرسلين) من مخطوطة "المكتبة السعودية 269/ 86 وفي غيرها من النسخ بلفظ (من المخلوقات).
2 قوله: (ومن الملائكة حتى) من مخطوطة "المكتبة السعودية 269/ 86".
3 لفظ (الأنبياء) من مخطوطة "المكتبة السعودية 269/ 86) ووقع في غيرها (الأولياء).
4 قوله (وإثباتها لله عز وجل) يقتضيه المقام ولكنه غير موجود فيما سوى طبعة الجميح, وقد وقع فيها بين قوسين كدليل على زيادته.
5 أي عند العامة كما بينه الشيخ في جوابه عن سؤال وجه إليه حول إيراد هذه العبارة فقد بين في ذلك الجواب أن هذا اللفظ إنما يطلقه عوام نجد في زمانه على من يعتقدون فيه من الأشخاص يقصدون به أن ذلك الشخص المعتقد فيه قادر على النفع والضر وأنه يصلح لأن يدعى وأن يرجى وأن يخاف وأن يتوكل عليه فصاروا يقصدون به ما يقصد بلفظ الإله. فتلخص من ذلك أن الشيخ حينما يورد هذه العبارة إنما يعبر بها عما يعتقده أولئك العوام لا عن معنى لفظ الإله عنده, وجوابه المشار إليه في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام. ج 1 ص 122.
6 لفظ (عنده) من مخطوطة "المكتبة السعودية 269/ 86".

ص -365- فالذين يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم الذين يسميهم الأولون الآلهة، والواسطة هو الإله، فقول الرجل "لا إله إلا الله" إبطال للوسائط.
وإذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة، فذلك بأمرين:
الأول: أن تعرف أن الكفار 1 الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلهم وأباح أموالهم واستحل نساءهم كانوا مقرين لله سبحانه بتوحيد الربوبية، وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا الله وحده.
كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}2. وهذه مسألة عظيمة جليلة 3 مهمة، وهي أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم 4 شاهدون بهذا كله ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم ذلك في الإسلام، ولم يحرم دماءهم ولا أموالهم، وكانوا أيضا يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون 5 أشياء من المحرمات خوفا من الله (.
ولكن الأمر الثاني: هو الذي كفرهم وأحل دماءهم وأموالهم وهو: أنهم لم
---------------ــ
1 سقط لفظ (الكفار) من روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وأثبت فيما سواها من النسخ.
2 سورة يونس آية: 31.
3 لفظ (جليلة) من مخطوطة "المكتبة السعودية 269/ 86".
4 قوله: (الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) من مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86.
5 كذا في جميع النسخ المطبوعة ووقع في مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86 لفظ (ويكفون عن).

ص -366- يشهدوا لله بتوحيد الألوهية؛ وتوحيد الإلهية 1 هو أن لا يدعى ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره ولا ينذر لغيره 2، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل؛ فمن استغاث بغيره فقد كفر، ومن ذبح لغيره فقد كفر، ومن نذر لغيره فقد كفر، وأشباه ذلك.
وتمام هذا أن تعرف أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الصالحين - مثل الملائكة وعيسى وأمه 3 وعزير وغيرهم من الأولياء - فكفروا بهذا، مع إقرارهم بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق المدبر. إذا عرفت 4 هذا عرفت معنى " لا إله إلا الله "، وعرفت أن من نخا 5 نبيا أو ملكا، أو ندبه أو استغاث به فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكن هؤلاء الصالحون مقربون 6، ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل
---------------ــ
1 لفظ (وتوحيد الإلاهية) من مخطوطة المكتبة السعوديه 269/ 86.
2 قوله: (ولا ينذر لغيره) في جميع النسخ عدا طبعة الجميح فقد سقط فيها من بعض النساخ.
3 لفظ (وأمه) من مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86.
4 كذا في النسخ المطبوعة ووقع في مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86 (تأملت).
5 ورد في بعض النسخ (نخا) بالخاء المعجمة وفي بعضها (نحا) بالحاء المهملة. وفي روضة الأفكار والأفهام لابن غنام (ناجي) من المناجاة, ووقع في بعض النسخ (دعا) وهو المراد بكل واحد من هذه الألفاظ.
6 كذا في مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86 وفي روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وهو أصوب مما وقع في بعض النسخ بلفظ (يمكن أن يكونوا مقربين) لأن من اعتقد الصلاح في شخص لا يشك في أنه مقرب عند الله.

ص -367- عليهم ونستغيث بهم، ونريد بذلك الوجاهة والشفاعة، وإلا فنحن نفهم أن الله هو الخالق الرازق 1 المدبر.
فقل: كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}3.
فإذا تأملت هذا تأملا جيدا، وعرفت أن الكفار يشهدون لله بتوحيد الربوبية - وهو تفرده بالخلق والرزق والتدبير - وهم ينخون عيسى والملائكة والأولياء، يقصدون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ويشفعون لهم 4 عنده، وعرفت أن من الكفار - خصوصا النصارى منهم - من يعبد الله الليل والنهار ويزهد في الدنيا ويتصدق بما دخل عليه منها معتزلا في صومعة عن الناس، وهو مع هذا كافر عدو لله مخلد في النار بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء يدعوه أو يذبح له أو ينذر له، تبين 5 لك كيف صفة الإسلام الذي دعا إليه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل، وتبين لك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ 6".
---------------ــ
1 لفظ (الرازق) من مخطوطة المكتبة السعودية 369/ 86.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة يونس آية: 18.
4 لفظ (لهم) من مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86 وروضة الأفكار والأفهام لابن غنام.
5 في روضة الأفكار والأفهام لابن غنام (فقد تبين).
6 عزاء المؤلف في كتابه فضل الإسلام إلى صحيح مسلم.

ص -368- فالله الله يا إخواني!! تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره، وأسه ورأسه شهادة أن لا إله إلا الله، واعرفوا معناها وأحبوها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت وعادوهم وأبغضوهم 1 وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم أو لم يكفرهم أو قال: ما علي منهم، أو قال ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلفه الله تعالى بهم، وافترض عليه الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم، فالله الله يا إخواني 2، تمسكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم وأنتم 3 لا تشركون به شيئا.
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
ولنختم الكلام بآية ذكرها الله تعالى في كتابه تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم من كفر 4 الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّض إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً}5. فقد ذكر الله عن الكفار 6 أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة والمشايخ فلم يدعوا أحدا منهم ولم يستغيثوا به 7، بل يخلصون لله وحده لا شريك له
---------------ــ
1 لفظ (وأبغضوهم) هنا من روضة الأفكار والأفهام لابن غنام وطبعة المطبعة المصطفوية وطبعة مطبعة أم القرى.
2 لفظ (يا إخواني) من مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86.
3 لفظ (وأنتم) من مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86.
4 لفظ (من كفر) من مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86.
5 سورة الإسراء آية: 67.
6 كذا في مخطوطة المكتبة السعودية 269/ 86 ووقع في النسخ المطبوعة بلفظ (فقد سمعتم أن الله سبحانه ذكر عن الكفار...).
7 لفظ (فلم يدعوا أحدا منهم ولم يستغيثوا به) من روضة الأفكار والأفهام لابن غنام.

ص -369- ويستغيثون 1 به وحده، فإذا جاء الرخاء أشركوا.
وأنت ترى المشركين من أهل زماننا - ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة - إذا مسه الضر قام يستغيث بغير الله، مثل معروف أو عبد القادر الجيلاني وأجل من هؤلاء مثل زيد بن الخطاب والزبير، وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله المستعان.
وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ويقال له: "الأشقر" 2 ويوسف وأمثالهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله أولا وآخرا
وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين، آمين.
---------------ــ
1 لفظ "يخلصون" ولفظ "يستغيثون" في هذه العبارة من مخطوطة المكتبة السعودية.
2 لفظ (ويقال له الأشقر) في طبعة المنار وطبعة الجميح وطبعة مطبعة الحكومة بين قوسين ولم يذكر في غيرهما